الأخبار و الصحف

السرية المصرفية تحمي ظهر من دمروا البلاد مالياً واقتصادياً

باتريسيا جلاد
صندوق النقد الدولي يطلب تقييدها أو إلغاءها
السرية المصرفية تحمي ظهر من دمروا البلاد مالياً واقتصادياً

28 شباط 2022

02 : 00

غضب لكن لا دواليب

أقر مجلس النواب الاثنين الماضي، قانوناً مدّد بموجبه مهلة رفع السرية المصرفية المرتبطة بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والمؤسسات العامة لحين انتهاء التدقيق. هذا الأمر أثار حفيظة المؤيدين لضرورة إلغاء قانون السرية المصرفية برمته أولاً وأخيراً، اقتداءً بسائر الدول وأبرزها سويسرا التي قيدت السرية المصرفية وحصرتها بالسرية المهنية، ولكشف المستور عن الفاسدين واستعادة الأموال المهربة وغير الشرعية. هل يمكن ذلك في الوقت الراهن وما كانت حسنات اعتماد السرية المصرفية وما هي سيئاتها في زمن الإنهيار؟ وهل سيضطر لبنان الى الغاء السرية نزولاً عند طلب صندوق النقد، الذي وضع بين شروطه “الحاجة الماسة لاتخاذ اجراءات حاسمة من قبل السلطات لمعالجة مشكلة الفساد العميقة الجذور، بما في ذلك الغاء قانون السرية المصرفية او تعديله بما يتماشى مع أفضل الممارسات الدولية؟”.

في حين يعتبر البعض أن الغاء قانون السرية المصرفية الصادر في 3/9/1956، هو مدخل لملاحقة وابتزاز أصحاب الرساميل، يرى البعض الآخر المتعطش لوضع حدّ للفساد واسترجاع الأموال المنهوبة والمحولة الى الخارج بعد تشرين 2019… أنه حان الوقت في ظلّ الأزمات التي نعيشها لإلغاء السرية المصرفية.

كريم ضاهر

نحن في زمن الانهيار

المحامي ورئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين (ALDIC ) كريم ضاهر أكد في حديث الى “نداء الوطن” أنه “لم يعد من الممكن اليوم استقطاب المستثمرين غير المقيمين، كما كان الوضع عليه قبل الأزمة، لذلك لم تعد السرية المصرفية تفيد الا الفاسدين في لبنان والمتهربين من الضريبة”، وعدا ذلك يعتبر أسباباً واهية اليوم في زمن الإنهيار، من هنا يشدّد على ضرورة رفع السرية المصرفية.

التحويلات الاستنسابية

هل سيكشف المستور بدءاً من التحويلات الإستنسابية بعد تشرين 2019، وصولاً الى الأموال المهربة وغير الشرعية؟ في هذا السياق يعتبر ضاهر أنه بما أن “رفع قانون السرية المصرفية محصور بالتدقيق الجنائي وتحديداً مصرف لبنان والمؤسسات العامة، لن يكشف كل الحقائق، باعتبار ان سرقة المال العام قد تتم عن طريق أشخاص آخرين. من هنا ضرورة رفع السرية المصرفية عن كل من يشتبه فيهم، أو من يحيطهم من أفراد العائلة والمستشارين والشركاء لإجراء المقاربة والمقارنة وتثبيت القرائن على الإثراء غير المشروع”.

تتبع حركة الحسابات

و شدّد على “ضرورة تتبّع الأموال العائدة للمصرفيين والماليين والسياسيين الذين تجاوزوا القوانين، عندها تحدّد الخسائر والمسؤوليات. بعد تحقيق هذا الإنجاز يأتي دور عامة المودعين والأفراد، فنحدّد تاريخ حدوث الإنهيار، وعلى أثره نسترد المبالغ التي تم تحصيلها والتي تتخطى النسب المعهودة”.

و يقول ضاهر”لا يمكن الكشف عما حصل في الماضي وتحديد المسؤوليات الا اذا رفعنا السرية المصرفية مع مفعول رجعي. رغم ان تلك المسألة غير محبذة بسبب عدم رجعية القوانين خصوصاً في الموضوع الجزائي نظراً الى مبدأ عدم العودة بالقوانين الى الوراء للمحاسبة اذا لم يكن هناك عقاب، عدا عن أن هذا القرار يمكن أن يحظى بالمعارضة. من هنا نحن بين أمرين: الحدّ من فجوة الخسائر وتوزيعها بشكل عادل مع تحميل مسؤوليات وبين الإلتزام بالضوابط المعتمدة في القوانين”.

بول مرقص

تسهيل عمل القضاء

بدوره أكّد المحامي ورئيس منظمة “جوستيسيا” بول مرقص لـ”نداء الوطن” أن إلغاء السريّة المصرفية “سيساعد ويسهّل عمل القضاء في الكشف عن كل الأعمال غير الشرعية التي حصلت قبل وبعد 17 تشرين، ويساعد في تطبيق أحكام قانون التصريح عن الذمة المالية والمصالح ومعاقبة الإثراء غير المشروع، الذي أقرّه مجلس النواب عام 2020، وبموجب المادة 14 منه “يُعاقب بالحبس من ثلاث إلى سبع سنوات وبغرامة تتراوح من 30 مرة إلى 200 مرة الحد الأدنى الرسمي للأجور كل من أقدم على ارتكاب جرم الإثراء غير المشروع”.

التداعيات على السياسيين

أما عن التداعيات المحتملة التي سيتركها الغاء قانون السرية المصرفية على السياسيين، فأشار مرقص الى “استخدام السياسيين السريّة المصرفية كتغطية للتحويلات والعمليات المصرفية والمالية التي قاموا بها خلال سنوات توليهم مناصبهم، ومن شأن رفعها كشف حركة الأموال التي قاموا بها، إلا أنه حتى مع إلغاء قانون السريّة المصرفية، يبقى ذلك من دون جدوى في ظلّ غياب قضاء قوي قادر على المحاسبة والوقوف بوجه كلّ الضغوطات التي يمارسها السياسيون يومياً، الأمر غير المحقق حتى الآن في لبنان ويلاحظ ذلك في ملف انفجار المرفأ”.

قانون من زمن غابر

مذكّراً بأن قانون السريّة المصرفية عندما أقرّ عام 1956، ساهم بشكل كبير في جذب الاستثمارات الأجنبية والعربية، وتعزيز مكانة القطاع المصرفي وفي توصيف لبنان “بسويسرا الشرق”. ولكن أصبح هذا القانون درع الحماية للسلطة السياسية لممارسة أعمالها غير المشروعة. فلم يعد من الجائز الاختباء وراء قانون السريّة المصرفية على حساب تحقيق العدالة، فالجرائم المالية عابرة للحدود والأمور اليوم تغيرت تماماً. أما العنصر الذي كان يجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال الخارجية فلم يعد فعّالاً، فخارجياً لم يعد هناك عملياً سريّة مصرفية بالتعامل مع لبنان، فهذا الأمر يلاحظ أولاً من النظام الضريبي العالمي الذي انضم لبنان إليه”.

التداعيات الإيجابية لرفع “السرّية”

وفي شأن التداعيات الإيجابية لرفع السرية المصرفية، لفت ضاهر الى ان “هذا الموضوع يشكل نقطة إنطلاق أساسية ومحورية لموضوع التقصي والتحري والاستقصاء في سياق عمليات محاربة الفساد واستعادة الأموال المكتسبة بصورة غير مشروعة، وبالتالي فإن الوصول إلى الحسابات المصرفية للأشخاص المشتبه بهم لإجراء المقاربة والمقارنة وتثبيت القرائن على الإثراء غير المشروع (سيما في حالة تملكهم أموالاً لا تمكنهم مواردهم العادية من تملكها ) ولكي لا يبقى موضوع مكافحة الفساد مجرّد شعار شعبوي فارغ من المضمون ومن دون فعالية أو تنفيذ عملي، بحيث يستمرّ لبنان ملاذاً آمنا للأموال التائهة أو الخارجة عن الشرعية و/أو ملجأ لأموال الفاسدين والمتهربين والهاربين من وجه العدالة والمساءلة الشعبية، بعد تكديسهم أموالاً غير مشروعة على مدى عقود حرمت الخزينة من أرصدة وإيرادات هي أحوج ما تكون إليها في الظروف القاسية والمأسوية الراهنة.

بين المقيمين وغير المقيمين

هذا بالنسبة الى السرية المصرفية المطبقة على المقيمين ضريبيا في لبنان. أما بالنسبة الى غير المقيمين والمستثمرين الأجانب، فأصبحت – مع إقرار القانون رقم 55 الصادر بتاريخ 27/10/2016 الذي أرسى آلية لتبادل المعلومات الضريبية ومكافحة التهرب والاحتيال الضريبي وفق أصول معينة – بحكم الساقطة بالنسبة للأشخاص غير المقيمين، كما وبالنسبة للأشخاص الذين تحوم حولهم الشكوك والشبهات الكبيرة وليس بوسعهم إثبات العكس لمجلس شورى الدولة. بالتالي لم يعد لبنان نظرياً كما كان، ملاذا آمنا للأموال التائهة أو الخارجة عن الشرعية الضريبية الدولية.

الحسابات المعنية بالتدقيق الجنائي

وعن رفع السرية المصرفية لغايات انجاز التدقيق فقط أوضح مرقص ان ذلك يشمل فقط حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، من دون أن يذكر صراحةّ شمول المؤسسات المالية والمصرفية الخاصة، المشمولة بالمادة 152 من قانون النقد والتسليف، التي تحظّر على أي شخص في المصرف إفشاء السرّ المصرفي، فكان من الأفضل شمول هذه الفئة لتوسيع نطاق الإصلاح”.

وطالما هناك غياب لإرادة سياسية، ليس بشأن رفع السرية المصرفية فحسب، بل في رفع الغطاء عن زبائن الجماعات السياسية في الإدارات والمجالس والصناديق والهيئات، رأى مرقص أن “ثمة عقبات تقنية دائمة قد توظف للوقوف في وجه التشريع الجنائي المالي المطلوب والجرائم الأخرى، فرفع السريّة المصرفية تمهيداً لمتابعة عمل التدقيق الجنائي هو أمر مهم وجوهري. ومن شأن إلغاء السريّة عدم تغطية الفساد وتسهيل عمل القضاء وجعل الأمور أكثر شفافية تجاه احقاق العدالة”.

صندوق النقد

أما ما يطلبه صندوق النقد الدولي في هذا السياق، فهو كما أكّد مرقص “القيام بمزيد من التقييد لقانون السريّة المصرفية وحتى إلغائه، بحيث لا يعود بالإمكان استخدامه كأداة لتغطية الفساد، وإفساح المجال بالتفاوض مع الصندوق بشكلّ شفاف وواضح، الأمر الذي يشكلّ مرحلة أساسية للنهوض بالوضع الاقتصاد المتردي الحالي في البلاد”.

10 وقائع تجعل لبنان موبوءاً مالياً

1 – تقدر نسبة التهرب الضريبي والجمركي في لبنان هي 40% من اجمالي الايرادات المفترض دخولها الخزينة العامة. ولمكافحة ذلك التهرب لا بد من رفع السرية المصرفية.

2 – بات واضحاً أن القوانين في لبنان إما قاصرة وإما لا تطبق كما يجب، وإلا لما وجدنا دعاوى تقام في الخارج متصلة بعمليات مشبوهة حصلت في لبنان، مثل العمولات التي تقاضتها شركة «فوري» من المصارف، وكشفت بعض تداعياتها في سويسرا ودول اوروبية أخرى على أنها تحمل شبهات اختلاس وتبييض أموال .

3 – تشدد الخزانة الأميركية على ضرورة تفعيل البلاغات المصرفية اللبنانية ومكافحة اقتصاد الكاش السائد حالياً. وذلك التشدد مرده، بحسب الاميركيين، الى رخاوة لبنانية في مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب والاموال الناتجة عن الفساد المتستر بالسرية المصرفية.

4 – يصنف لبنان في قبل منظمة الشفافية الدولية بين الأسوأ عالميا في مؤشرات الفساد، وما السرية المصرفية الا واحدة بين العوائق التي تحول دون مكافحة الفساد والاثراء غير المشروع.

5 – وردت اسماء لبنانية كثيرة في الوثائق المسربة عن الثروات المخبأة حول العالم في جنات ضريبية. وأبرزها وثائق باندورا وبنما التي ضجت بها المحافل الدولية المهتمة بمكافحة التهرب الضريبي. اما في لبنان فمرت تلك الوثائق مرور الكرام، ما يدل على تواطؤ سياسي وقضائي مع النافذين المتهربين من الضرائب والمتهمين بالاثراء غير المشروع.

6 – انكشفت خلال الازمة اسطورة ان السرية المصرفية بين اسباب ازدهار لبنان عموماً وقطاعه المالي والمصرفي خصوصاً، فاذا بذلك الازدهار المزعوم يتحول الى أحد أكبر الخسائر في التاريخ الحديث.

7 – ينسى المدافعون عن السرية المصرفية في لبنان، وضربهم مثل سويسرا، ان الاقتصاد الحقيقي لا يبنى على السرية المصرفية. فالاقتصاد السويسري مزدهر أولا بسبب انتاجه وصناعاته لا سيما الكيماوية والدوائية وصناعة الآلات الالكترونية ، بما يجعل ميزانها التجاري فائضاً، اي انها تصدر اكثر مما تستورد.

8 – بدأت سويسرا منذ العام 2014 تتخلى تدريجياً عن السرية المصرفية بفعل اتفاقات مع اكثر من 80 دولة حول العالم بشأن تبادل المعلومات الضريبية. وتنشط في سويسرا الدعوات لإلغاء ما تبقى من سريات مصرفية. أما في لبنان فهناك من يتمسك بالسرية لغايات لم تعد خافية على أحد بعد انكشاف التداعيات الكارثية للأزمة.

9 – باتت الدول التي تحرص على السرية المصرفية، وانها جنات ضريبية وملاذات آمنة للاموال، مصنفة دولياً على نحو يثير الريبة فيها. وهي مطالبة دائما بتقييد السرية كي لا تبقى تحت المجهر الدولي على أنها موبوءة مالياً.

10 – بات واضحاً ان بين معالجات الأزمة اللبنانية الراهنة، والتي انتجت خسائر بنحو71 مليار دولار، ضرورة محاسبة المسؤولين عنها لا سيما محاسبة من كان وراء تبديد عشرات مليارات الدولارات من حسابات المودعين. ولا يمكن اجراء محاسبة عادلة من دون الغاء السرية المصرفية.

المصدر
nidaalwatan.com
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق