JUSTICIA Foundation

اكتظاظ وتعذيب وموت.. السجون اللبنانية “قنابل موقوتة (2023/07/08)”

إذا كانت الأزمة أتعبت اللبنانيين في حياتهم ومهنتهم ومصدر عيشهم فإن السجون في بلاد الأزر إنعدمت فيها مقومات العيش من مياه وغذاء ونظافة وأدوية ويقبع نزلاؤها خارج حسابات الدولة العاجزة.

لطالما ارتبط عنوان السجون في لبنان بمفهوم الذل والتعذيب، الذي يصل إلى الموت أحياناً ،نظراً للظروف القاسية التي يعيشها السجناء والتي لا تتوافر فيها أدنى المقومات المطلوبة للعيش ولربما بسبب عدم توفر موظفين متخصصين بالتعامل مع السجين. يقول نلسون مانديلا “المرء لا يعرف أمّةً ما من الأمم إلا إذا دخل سجونها” فالحكم على الأمم لا ينبغي أن يرتكز إلى معاملتها لمواطنيها، ولكن إلى معاملتها لمن هُم في المستويات الدنيا.
فمع تدهور الوضع الإقتصادي، واجه السجناء جميع الأزمات التي يواجهها المواطنون خارج القضبان.

يستعرض هذا التحقيق حال المساجين مسلطاً الضوء على انعكاس عذاباتهم على أسرهم وعلى حالتهم النفسية.

قصص عذاب إهمال ووفيات

بداية يوضح مدير مركز سيدار للدراسات القانونيّة، المحامي محمد صبلوح لـ”جسور” أن سجن رومية يتسع لـ 1050 سجيناً ويوجد فيه حالياً 3700 سجين كما أنه ومنذ نهاية عام 2022 ولغاية الشهر الأول من عام 2023 ووفق إحصاءات منظمة العفو الدولية هناك أكثر من 34 سجيناً في مختلف السجون اللبنانية غالبيتهم قضوا بسبب الإهمال الطبي” مكرراً مطالبته وزارة الداخلية بفتح تحقيق بالوقائع دوماً لكن لا جواب !!”.
يقول صبلوح: “حكم أحد الموكلين بـ 15 سنة سجناً ،على سبيل المثال ،أصيب الشاب قبل عامين بأزمة قلبية وتوفي عند باب مستشفى ظهر الباشق الحكومي بسبب غياب الأطباء وعدم توفر عيادة طارئة في السجن وبعد تأخر وصول سيارة الإسعاف والإجراءات الروتينية لنقله”.
ويتابع صبلوح حديثه لـ”جسور “عن إحدى الحالات الموجعة بقي فيها سجين 3 أشهر ينتظر إجراء عملية قلب مفتوح بعد أن جمع مبلغ 7500 دولار علماً أن طبابة السجين تقع على عاتق الدولة اللبنانية، وعندما جمع المبلغ توفي قبل وصوله الى المستشفى” ويستطرد: “كان من الضروري فتح تحقيق في هذه الحادثة الا أن آذان المسؤولين لا تسمعنا”.
ورأى وجوب أن توكل مهمة إدارة السجون الى وزارة العدل بدلاً من وزارة الداخلية وفقاً لمرسوم صدر في عام 68 ولغاية اليوم لم يطبق ومن المؤسف أن العقل العسكري يتعاطى مع السجين بعنف”.
ويكشف صبلوح عن حالة مؤسفة لأحد السجناء ويدعى مصطفى السمان حصلت في مبنى المحكومين حيث” تجادل السمان مع الضابط المسؤول هناك، لم يرق للأخير ذلك فأدخل جنوده ليضربوه بلا رحمة على رأسه “،” تعرض الشاب لتعذيب ممنهج ومنعت والدته بعد الحادث مباشرة من مشاهدته وعندما شاهدته صدمت بمشهد التعنيف لا بل كادت أن تموت في مكانها”.
المحامي صبلوح عاتب على المدعي العام التمييزي ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية لأن الشكاوى التي تصلهم غالباً ما تنام في الأدراج “ويقول” كل السجون تعاني من دون استثناء ولدينا العديد من الشكاوى لحالات متنوعة لا تنتمي الى سجن واحد أو بيئة واحدة فالتعذيب والإهمال يسريان على الجميع دون استثناء”

عوامل نفسية وإجتماعية مخيفة

الى ذلك، توضح أستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية أديبة حمدان لـ”جسور” عن الآثار النفسية والاجتماعية على الضحية وعائلتها فتقول: “التعذيب الجسدي تكون آثاره ظاهرة ومن الممكن أن يحملها الشخص طوال حياته أو قد تأتي على شكل أمراض تعيش معه وربما يحمل إعاقة معينة وهذا ما نلاحظه في كثير من الحالات في مجتمعنا سيما في العدد الهائل من المعذبين الذين دخلوا المعتقلات “.
وتقول”المعذب جسدياً يمكن أن نرى نتيجة عذاباته أما العذاب النفسي فهو الأخطر والأعمق ولا يمكن إزالته بعملية جراحية ويترك آثاراً بالغة الخطورة في شخصية المعذب الذي يتغير سلوكه مع المحيط ويبقى في سجن داخل نفسه وفيها تكثر الصراعات وتنعكس”.
وتتابع حمدان: “هناك شواهد كثيرة في هذا المجال لا سيما الذين خرجوا من المعتقلات الاسرائيلية حيث تعرضوا لتدمير ممنهج لوضعهم الجسدي والنفسي، وبعض المعتقلين خرج بحالة من فقدان الذاكرة والتركيز” وتعول حمدان على “ضرورة إعادة بناء شخصية كل مسجون بعد خروجه من السجن مجددا لان السجن يعرضه لتدمير نفسي شامل”.
وتشدد على دور العائلة الكبير في إعادة ترميم شخصية المسجون لذا لا بد من إيجاد مؤسسات تدعم المعتقل بعد خروجه من الاعتقال وتأمين الطبابة الصحية والأهم إعادة تأهيله تمهيداً لإندماجه مجددًا في المجتمع”.

أساسيات مفقودة

اكتظاظ السجون أحد العوامل الرئيسية التي تسهم في ظروف الاحتجاز اللاإنسانية في لبنان ويضعف هذا الإكتظاظ فعالية برامج إعادة التأهيل والتدريب المهني وكذلك الأنشطة الثقافية.
وتعاني أنظمة السجون في لبنان من حواجز تنظيمية ومن موظفين غير متخصصين إذ تفشل السجون في لبنان وفق بعض الخبراء القانويين في تلبية الاحتياجات الأساسية للسجناء سواء من حيث خدمات الرعاية الصحية أو توفير أدوات النظافة أو البنية التحتية المهترئة، أو سيارات الإسعاف التي تفتقر إلى الصيانة.”

تهديد بالمجاعة!

الأمور لا تقف عند هذا الحدّ فقد أوضحت مصادر إعلامية مواكبة لقضايا السجون اللبنانية لـ “جسور” أن أزمة أمن غذائي تعمّ السجون مرتبطة بالإنهيار في بنية الدولة اللبنانية التي باتت عاجزة عن تسديد مستحقات التجار والمتعهدين، الذين يزودون قوى الأمن بالمواد الغذائية لإدارة السجون” و”يتعاظم القلق بعد أن انهارت قيمة العملة اللبنانية مقابل الدولار”.

ولا تقتصر جرائم التعذيب على التعرّض بالأذى الجسدي والنفسي لنزلاء السجون، بل تتعداه إلى شيوع الفساد وسوء إنفاق الأموال على السجون في ظل التقصير الكبير بحق نزلاء السجون في لبنان، ويقول المحامي صبلوح لـ “جسور” كل أشكال التعذيب متوفرة في السجون اللبنانية بدءا من سوء التغذية وغياب الطبابة والاكتظاظ وغياب الرعاية مشيرا الى أنه ووفق الأصول ، السجين الذي يتم سجنه في مركز، من المفترض أن يعمل على إصلاحه وتأهيله ويندرج ذلك تحت خانة التعذيب النفسي الذي يفوق بخطورته التعذيب الجسدي”.
ويشير وفقا لأرقام منظمة العفو الدولية الى ارتفاع معدلات الوفيات في السجون اللبنانية من 18 سجيناً في عام 2018 إلى 34 في عام 2022 وهي زيادة هائلة أما أسباب الوفاة فتعود إلى سوء الطبابة وغيابها كلّياً في كثير من الحالات المرضية.” ويقول “رغم مطالبة وزارة الداخلية بفتح تحقيق بالتقصير الاستشفائي الحاصل بحق السجناء، لم تحرّك الوزارة ساكناً.” و”ليس نقص الغذاء والاستشفاء وحده ما يعرّض كرامة نزلاء السجون للإنتهاك، وحياتهم للخطر فقط فالاكتظاظ يجعل من السجون عرضّة لكل أشكال العنف والمرض “وفق صبلوح

أرقام الداخلية

تفيد أرقام وزارة الداخلية بأن نسبة الاكتظاظ في السجون عموماً تفوق 100 في المئة أما في نظارات قصور العدل فتفوق النسبة 118 في المئة وتتفاوت معدّلات الاكتظاظ بين سجن وآخر.
ففي سجن جزّين تفوق نسبة الإشغال 234 في المئة وفي سجن جبيل تقارب 217 في المئة وفي النظارات حيث لا يجب أن يبقى فيها الموقوف لأكثر من 48 ساعة، فإنها تواجه اكتظاظًا مخيفاً، ومنها ما تحوّل إلى سجن فيقبع فيها الموقوف لأكثر من سنة أو سنتين علماً أن بعض النظارات لا يتسع لأكثر من شخصين فيتم توقيف 5 أشخاص فيها.

الإهمال يتمادى

وإذ يحذّر صبلوح من الإهمال المتمادي في السجون التي باتت أشبه بالقنابل الموقوتة، يؤكد أنه مع بدء موسم الصيف وارتفاع الحرارة، بدأ مرض الجرب بالإنتشار بين نزلاء السجون.”
ويعلق محام آخر في البقاع لـ”جسور” وهو يتابع ملف ضحايا التعذيب في السجون البقاعية فيقول: “لا يمكن للكلاب أن تعيش بالشكل المفروض على السجناء في لبنان”.. “الغرف قذرة ولا مياه ولا نظافة، حتى المراحيض لا يفصل بينها وبين النزلاء سوى قطعة قماش بسبب الاكتظاظ، ومن السجناء من يتناوب على النوم مع زملائه لعدم توفر أماكن للجميع والأسوأ من ذلك هو أن هناك سجناء لم يروا ضوء الشمس منذ سنوات”.
ويذّكر صبلوح بإخفاق كل محاولات التخفيف من اكتظاظ السجناء قائلاً: “منذ سنوات رفعنا الصوت للحكومة ومجلس النواب والقضاء وإدارة السجون، ولا آذان صاغية لأن قانون العفو العام وخفض السنة السجنية اصطدم بالعقبات الطائفية”.
يتّهم صبلوح القضاء بعرقلة دعاوى التعذيب، والسماح لمرتكب جريمة التعذيب بالإفلات من العقاب، ويقول” عندما تُرمى دعاوى التعذيب بالأدراج، ويتم التعامل معها بعقلية متناقضة مع دولة مؤسسات ورعاية، يُصبح القاضي هو المسؤول المباشر”.

معاقبة التعذيب

في سياق متصل، يوضح المحامي الدكتور بول مرقص رئيس مؤسسة JUSTICIA الحقوقية وعميد العلاقات الدولية في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ لـ”جسور” أنه وفي 19 أيلول العام 2017، أقرّ مجلس النواب القانون رقم 65/2017 تحت عنوان “معاقبة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة” ويضيف مرقص” على الرغم من مرور 6 سنوات على إقرارالقانون ، إلا أن تنفيذه لا يزال يشوبه الكثير من الثغرات والعقبات”.
ويتابع “تنصّ المادة 10 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني على أن مدّة مرور الزمن هي 10 سنوات في الجناية، و3 سنوات في الجنحة، وسنة في المخالفة. وقد أضافت المادة الثالثة من القانون رقم 65/2017 فقرة على هذه المادة، تنصّ على أن مرور الزمن على جريمة التعذيب لا يبدأ بالسريان إلا بعد خروج الضحية من السجن أو الإعتقال أو التوقيف المؤقت إذا لم يتبعه سجن، الأمر الذي يتعارض مع المعايير الدولية التي تشير على أنه لا ينبغي أن يكون هناك مرور زمن على جريمة التعذيب.” يتابع “بالإضافة إلى ذلك، فإنه وفقاً للكثير من المرجعيات الحقوقية، فإن مواد القانون رقم 65/2017 لا تعكس بشكل كافٍ الطبيعة الخطيرة والفادحة لجريمة التعذيب على حقوق الإنسان.”
ويضيف مرقص “رغم أن عنوان القانون هو(معاقبة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية أو المهينة) إلا أنه لا يجرم “المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة” وهي المحظّرة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1987، بالإضافة إلى أن بعض قضايا التعذيب في لبنان لا تزال تحال أمام المحاكم العسكرية والتي تطالها الكثير من الانتقادات لجهة احترامها لمبادئ المحاكمة العادلة وتفتقر إلى الاستقلالية القضائية.”
ويتابع ” وفقاً لمنظمة العفو الدولية، لا تزال “عشرات الشكاوى التي تستند إلى قانون مناهضة التعذيب من دون تحقيق “مشيرا الى انه و”فضلاً على أن لجنة الوقاية من التعذيب التي شكّلت سنداً للمرسوم رقم /5147/ تاريخ 5 تموز 2019 تفتقر إلى التمويل اللازم لعملها، فلم يتم بعد تخصيص ميزانية خاصة بها حتى تتمكن من بدء مهامها التي تتضمن مراقبة تنفيذ القانون رقم 65/2017 وتملك صلاحية القيام بزيارات دورية أو مفاجئة في أي وقت كان لأماكن الحرمان من الحرية من دون إعلان مسبق ومن دون الحاجة لأي إذن من أي سلطة إدارية كانت أم قضائية أو أي جهة أخرى، كما وإجراء مقابلات جماعية أو خاصة على انفراد مع من تشاء من الاشخاص المحرومين من حريتهم، بعيداً من أية رقابة، وبوجود مترجم إذا ما اقتضت الضرورة، وممارسة صلاحية غير مقيدة للحصول على معلومات بشكل سري بحسب ما يقتضيه عملها.”

طاولة مستديرة لمناسبة 26 حزيران

وتزامنا مع اليوم العالمي للأمم المُتحدة لمساندة ضحايا التعذيب ، انعقدت في بيروت طاولة مستديرة قبل أيام ضمت بعض الجمعيات الأهلية الحقوقية المهتمة باعادة تأهيل السجناء ومساندتهم بعد خروجهم ، وعرض المحامي محمد صبلوح، مدير مركز سيدار للدراسات القانونيّة، الانتهاكات بحقّ نزلاء مراكز التوقيف والسجون، مشيراً الى انتشار ثقافة “العنف في انتزاع التحقيقات”، وبتجاهل تطبيق القانون 65/2017 بالإضافة إلى تهميش تطبيق المادة 47 المُعدلة من قانون أصول المُحاكمات الجزائيّة في التحقيقات الأوليّة، وخاصةً عند الأجهزة الأمنيّة التّي تتمنع قصدًا أو جهلاً عن تزويد الموقوفين بالمعلومات المُتعلقة بحقوقهم.
وفي ختام جلسات النقاش ، صدر بيان مشترك بين المجتمعين طالب الموقعون من خلاله السّلطات اللبنانيّة باتخاذ الإجراءات التّالية:
• ضمان الالتزام بالمادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية، لا سيما لناحية ضمان الاستعانة بمحام وعرض جميع الموقوفين للمعاينة الطبية أثناء استجوابهم الأوّلي من قبل الأجهزة الأمنية.
• احترام مهل التوقيف الاحتياطي المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية • إجراء تحقيقات فورية ومستقلة ونزيهة وفعالة في الشكاوى والإخباريات المتعلقة بالتعذيب، فضلًا عن المعاملة أو العقوبة القاسية واللاإنسانية والمهينة • إحالة جميع قضايا التعذيب إلى المحاكم العدلية المنصوص عليها في المادة 15 من قانون أصول المحاكمات الجزائية ، وضمان حق جميع الأطراف في محاكمة مستقلة وعادلة وشفافة . • الكف فوراً عن الترحيل القسري للاجئين السوريين، والسماح للأشخاص المعرضين لخطر الترحيل بالحصول على المشورة القانونية، والتواصل مع ممثلين عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والاعتراض على قرارات الترحيل أمام القضاء • إقرار قانون يضمن استقلال القضاء وفق المعايير الدولية • تعديل قانون معاقبة التعذيب بما يتماشى مع التزامات لبنان الدولية واتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب
• إصدار المراسيم الحكومية الضرورية للسماح للهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، بما في ذلك الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، بالوفاء بمهامها
• تقديم التقرير الدوري الثاني للبنان إلى لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، والذي تأخر تقديمه منذ أيار 2021، وقبول طلب المقرر الخاص المعني بالتعذيب في الأمم المتحدة بزيارة لبنان والمعلقة منذ شباط 2017
• الاعتراف باختصاص لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة في تلقي الشكاوى الفردية المقدمة من الضحايا والنظر فيها، على النحو المنصوص عليه في المادة 22 من اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب
• نشر التقارير المحالة من قبل اللجنة الفرعية لمنع التعذيب التابعة للأمم المتحدة إلى لبنان.

المصدر: جسور

Exit mobile version