التحديات كبيرة والمسارات طويلة لكن الأثمان والخسار باهظة جداً. ولذلك يجب أن نثابر على المطالبة بإحقاق العدالة والتشبّث بها والنضال في سبيلها دون مللّ مما يحيي الأمل في بناء عالم أكثر عدالةً وسلاماً للأجيال القادمة.
بقلم المحامي الدكتور بول مرقص رئيس مؤسسة JUSTICIA الحقوقية في بيروت والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبور:
I.المقدمة:
أثارت حرب غزة عام 2023 قلقاً كبيراً بسبب انتهاكات القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان من إسرائيل دون رادع. منذ إمتداد الانتهاكات نحو جنوب الأراضي اللبنانية، حتى وصولها إلى بيروت وبعض ضواحيها والبقاع، لا زلنا نشاهد إرتكاب إسرائيل أشد أنواع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإنتهاكات على القانون الدولي الإنساني: فما هو وكيف يطبّق وما أوجه القصور؟
II.الإتفاقيات الدولية والبروتوكولات والقانون الدولي الإنساني (القرارات):
نُشير إلى أن إسرائيل صدّقت في ٦ تموز ١٩٥١ على إتفاقيات جنيف الأربع التي تنص على قواعد الحرب وحماية للمدنيين خلال النزاعات المسلحة. بالتالي، يجب أن تؤدّي الانتهاكات المرتكَبة، كاستهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية واستخدام القوة بصورة مفرطة وعشوائية، إلى التحقيق والمحاكمة على الأقل وفقاً لأحكام المواد رقم /3/ ورقم /27/ ورقم /49/ من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي ترعى حماية المدنيين. كذلك، تندرج قرارات مجلس الأمن في هذا الإطار، كالقرار رقم 1738 بتاريخ 23/12/2006 بعنوان “حماية المدنيين في النزاعات المسلحة” والذي تكون خرقته إسرائيل.
III.قصور تطبيق القوانين الدولية الإنسانية: فجوة بين النصوص والواقع:
-أوّلاً: مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين: التزام عالمي لا يُعقل تجاهله:
تفجير أجهزة النداء وأجهزة الاتصال اللاسلكية التي أحدثته إسرائيل في العديد من المناطق داخل الأراضي اللبنانية يومي 17 و18 أيلول 2024، فضلاً عن تحويل الأحياء السكنية إلى أهداف عسكرية وتعريض المدنيين إلى الخطر، من شأنه أن يخالف القواعد العالمية للحرب، ممّا يخالف مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين أثناء النزاعات المسلحة، الذي أرساه القانون الدولي الانساني، وخصوصاً اتفاقيات جنيف الأربع لعام ١٩٤٩ وبروتوكولاتها لعام ١٩٧٧ لاسيّما الأول منها، وبشكل خاص أحكام المادة /٥٧/ والمادة /٥٨/ بفقرتيها /ب/ و /ج/.
وعلى الرغم من أن إسرائيل طرف فقط في البروتوكول الإضافي الثالث دون الأول والثاني، إلا أن ذلك لا يسمح لها بالتنصّل من موجبها الطبيعي والبديهي والعرفي في احترام المعايير الدولية الإنسانية التي أصبحت البشرية جمعاء تهتدي بها وتحترمها معززة بالقواعد الدولية للصليب الأحمر التي تنص أيضاً على حماية المدنيين.
-ثانياً: استهداف المدنيين عبر التحذيرات المضلّلة:
في 23 أيلول 2024، وبالتزامن مع اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة على مناطق عدّة في لبنان، تلقى سكان الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت رسائل تحذيرية منها نصية وأخرى عبر شبكات الهاتف الثابت تحثّهم على “إخلاء أماكن وجودهم سريعا.ً” كما تلقّى وزير الإعلام اللّبناني زياد المكاري إتصالاً “تمت خلاله تلاوة رسالة مسجّلة تضمّنت طلب إخلاء المبنى.”
هذا التكتيك هدفه تفعيل الحرب النفسية لدى المواطنين باستخدام إسرائيل لأساليب الارهاب النفسي، مما يشكّل خرقاً للقانون الدولي الإنساني بحسب نص المادة /٥١/ فقرة /٢/ من البروتوكول الأول الإضافي، والتي تعنى بحماية السكان المدنيين.
وهذه الأفعال لا تنضوي تحت نية التحذير لإخلائهم المنازل من اجل سلامتهم ولعدم تعرضهم للخطر كما تزعم، إذ أن هذا السبب المعلن هو غالباً مضلّل ويستخدم لحجب النظر عن حقيقة استخدامها لأساليب الحرب التي تهدف إلى خلق الرعب والإرتباك لدى المواطنين لتهجيرهم قصراً من أراضيهم.
-ثالثاً: تفاقم الخسائر البشرية والتهجير:
بتاريخ 2 تشرين الثاني 2024، أصدر مركز عمليات الطوارئ التابع لوزارة الصحة اللبنانية تحديثاً بارتفاع عدد الشهداء إلى أكثر من 2,986 شهيداً من ضمنهم حوالي 166 طفلاً و13,402 مصاباً.
بتاريخ 30 تشرين الأول 2024، سجلت المنظمة الدولية للهجرة (IOM) تزايد عدد النازحين إلى 842,648 شخص منذ 8 تشرين الأول 2023، منهم ٥٢٪ إناث و48% ذكور. يجدر الذكر أن عدد النازحين المسجلين يماثل هذا العدد، إلاّ أن العدد الحقيقي يفوق المليون نازح.
فما هو الجهاز القضائي المؤتمن على إنفاذ القانون الدولي الانساني؟
IV.الدور الدولي في تنفيذ القانون الدولي الإنساني: التحديات والآليات:
-أوّلاً: أهمية المحاكم الدولية في مساعدة الدول المتضررة:
تختص المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب نظام روما الأساسي للعام 1998 بمحاكمة الأفراد المسؤولين عن ارتكابهم جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم العدوان والإبادة الجماعية.
-ثانياً: وجوب قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية:
بتاريخ نيسان 2024، أصدر مجلس الوزراء اللبناني التعليمات لوزارة الخارجية لتقديم إعلان إلى قلم “المحكمة الجنائية الدولية” بقبول اختصاص المحكمة للتحقيق في الجرائم المرتكبة على الأراضي اللبنانية منذ 7 تشرين الأول 2023، ومن ثم تراجع.
إستناداً إلى المواد رقم /١٣/ و/١٥/ من نظام روما الأساسي، قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية من خلال هكذا تصريح، من شأنه أن يمنح مدعي عام المحكمة تفويضاً للتحقيق في الجرائم الخطيرة المرتكبة في لبنان، بما فيها جرائم الحرب والعدوان.
بالنظر إلى الجوانب القانونية، السعي وراء محاكمة قادة إسرائيل عن الجرائم المرتكبة في لبنان مؤخراً تعكس إلتزام المجتمع الدولي بمحاسبة الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي وضمان الحقوق الأساسية للشعوب المتضرّرة. وذلك ممكن أيضاً عبر دعوة الأطراف في إتفاقية جنيف الرابعة إلى إلزام إسرائيل بإحترام أحكامها، أو اللجوء إلى الجمعية العامة استناداً إلى قرار “الإتحاد من أجل السلام” دون الحاجة إلى المرور بمجلس الأمن المعطّل بحق النقض (Veto).
التحديات كبيرة والمسارات طويلة لكن الأثمان والخسار باهظة جداً. ولذلك يجب أن نثابر على المطالبة بإحقاق العدالة والتشبّث بها والنضال في سبيلها دون مللّ مما يحيي الأمل في بناء عالم أكثر عدالةً وسلاماً للأجيال القادمة.