• Sami El Solh Highway Facing Justice Palace
  • +9611611717

كيف تتعامل المصارف مع الأموال المجمدة بسبب العقوبات؟

في الماضي أخذ السلاح الاقتصادي شكل العنف المادي، حيث كان يفرض أصحاب السلطان والدولة حصاراً ومقاطعة للخصوم من أجل فرض الشروط عليهم. أما اليوم، فبات القلق يسود لمجرد التهديد المعنوي باتخاذ إجراءات تطاول الحسابات المصرفية للأفراد والدول. الأمر الذي يقود إلى التساؤل حول الأموال المجمدة بموجب العقوبات، هل يفقد المستفيد حقه الاقتصادي فيها بصورة نهائية بعد تجميدها؟ أم أن الأمر يقتصر على خسارة الفوائد المستحقة عن استثمارها من قبل المصرف؟ تفرض هذه المسألة إشكالية قانونية كبيرة لأن القواعد القانونية القائمة للتجارة البرية، تقوم لتنظيم العلاقات ضمن الظروف الطبيعية، وعلى التبادلات التي تحصل في أجواء سلمية وفي أجواء من الحرية. أما العقوبات الطارئة لأسباب مختلفة كالإرهاب، أو تبييض الأموال، أو المتأتية من الأشكال المختلفة للكسب غير المشروع، والفساد فهي أمور مستجدة، وقد دفعت المشترع للتحرك من أجل قمعها.

العنصر الأجنبي حاضر

منذ إقرار اتفاقية “بريتون وودز” في عام 1944 لتنظيم التجارة العالمية وتحقيق نوع من الاستقرار المالي الدولي، و”اعتماد الدولار الأميركي” عملة رئيسية لتحديد أسعار عملات الدول. مارست الولايات المتحدة الأميركية دوراً متزايداً في تنظيم العلاقات الدولية سياسياً واقتصادياً. وشكل النظام المصرفي الدولي المعولَم ساحة لترتيب التبادلات المالية العالمية، ولتقييد التبادلات التجارية والمالية للخصوم. وبعد انتهاء الحرب الباردة، فعّلت بالتعاون مع حلفائها سلاح العقوبات ضد النظام العراقي بقيادة صدام حسين، إلا أن طابعها “الجماعي” كانت له نتائج إنسانية كارثية. وخلال العقدين الأخيرين، بدأ الترويج لما يسمى “العقوبات الذكية”، ويقصد بها الإجراءات التي تستهدف السياسيين الخصوم والقادة العسكريين، والشخصيات التي تلعب “دوراً سلبياً” في مجالات انتهاك حقوق الإنسان، وزعزعة الاستقرار الدولي، والفساد. وتعتبر الإجراءات المرافقة للمفاوضات حول الملف النووي الإيراني خير دليل على نجاعة “السلاح الاقتصادي”. وفي لبنان، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على عدد من رجال السياسة والمال بسبب الشبهات التي لاحقتهم، وأشهرها العقوبات التي فرضت على شخصيات مقربة من “حزب الله”، وتلك التي طاولت رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وآخرها تجميد حسابات لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة.

أخيراً، وفي موازاة الهجوم الروسي على أوكرانيا، أطلقت المجموعة الغربية أوسع حزمة للعقوبات استهدفت النظام الروسي وشبكة مصالح رجال الأعمال المرتبطين به.

فاعلية العقوبات

فرضت العقوبات الاقتصادية التي تطاول الدول والأفراد نفسها على الساحة الدولية، وازدادت فاعليتها في ظل “عولمة التجارة العالمية”، والسلطة المركزية للقرار المالي في يد مؤسسات متأثرة بالولايات المتحدة الأميركية. وبحسب المحامي بول مرقص، تمارس وزارة الخزانة سلطة واسعة في تجميد الأرصدة المصرفية العائدة لأشخاص مدرجين على قائمة العقوبات الأميركية، ومن ثم “عند فرض العقوبات، تطلب المصارف من العميل إقفال الحساب، تمهيداً للامتناع عن إقامة أي علاقة مصرفية به. أما بالنسبة لأقربائه المباشرين أو المحيطين به والمقربين منه، فإنها تُخضع حساباتهم لما يسمى (العناية الموجِبة المعززة EDD) أي التشدد في مراقبة مصادر أموالهم وتحاويلهم وحركة حساباتهم”، فضلاً عن قيود السفر، وتوقيفهم عند ظهورهم في أي دولة متعاونة مع العقوبات، وتجميد أصولهم.

ويلفت مرقص إلى الطابع المستمر والدوري لعملية العقوبات على الخصوم والتنظيمات من خلال “إدراج جمعية أو مؤسسة في لائحة مكتب مراقبة الأصول والموجودات في الولايات المتحدة الأميركية OFAC، التابع لوزارة الخزانة الأميركية من أجل مكافحة تمويل خصومهم على سبيل المثال “حزب الله” في لبنان”، مشيراً إلى “الأثر الكبير للعقوبات على من لديه استثمارات وحسابات في النظام المالي التقليدي والمصرفي العالمي وفي الخارج”، في ظل محاولات للتملص من أثر العقوبات على الأفراد والمنظمات، والاعتماد على المعاملات النقدية غير الخاضعة للرقابة.

عقوبات دولية متعددة

ولا تقتصر العقوبات الدولية على اللوائح الأميركية، وبالتالي هناك قوائم عقوبات دولية خاضعة لسلطة الأمم المتحدة UN-List، حيث يوضع الأشخاص بموجب قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى قرارات مجلس الدولي الهادفة لفرض “حصار اقتصادي” لدول معينة كما حدث سابقاً بحق العراق، وليبيا، وغيرها من الدول. وفي العودة إلى الوراء، فقد شهدت أوائل القرن التاسع عشر على “الحصار القاري” الذي فرضه نابوليون على إنجلترا بموجب مرسوم إمبراطوري نشره في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1806 من أجل إغلاق المنافذ البحرية أمام التجارة الدولية، وخلق أزمة اقتصادية وإثارة اضطرابات اجتماعية وسياسية تجبر الحكومة البريطانية على طلب الصلح معه، وإخضاع التحالف الرباعي ضده الذي يضم أيضاً روسيا، وبروسيا (ألمانيا حالياً)، والنمسا، إلا أن هذا السلاح لم يكن مجدياً على المدى الطويل.

مصير الودائع وفوائدها

تنصب العقوبات الدولية في الزمن الحاضر على الأرصدة المصرفية، حيث تُجمّد وتُقيّد إمكانية الوصول إليها. ولكن في المقابل، هناك تجميد لأرصدة بموجب قرارات هيئة التحقيق الخاصة في لبنان. ويبرز التساؤل حول مصير هذه الأموال، وإمكانية استثمارها من قبل المصارف.

يلفت المحامي بول مرقص إلى أن “المسألة شائكة”، والإجابة تكمن في قانون التجارة البرية، وموقف الاجتهاد اللبناني. بحسب المادة 307 من قانون التجارة البرية في لبنان، التي تنص في فقرتها الأولى على ما يلي: “إن المصرف الذي يتلقى على سبيل الوديعة مبلغاً من النقود يصبح مالكاً له، ويجب عليه أن يرده بقيمة تعادله دفعة واحدة، أو عدة دفعات عند أول طلب من المودع، أو بحسب شروط المهل، أو الإعلان المسبق المعينة في العقد”. كما تنص المادة عينها على الفائدة “تجب الفائدة عند الاقتضاء ابتداء من اليوم الذي يلي كل إيداع إن لم يكن يوم عطلة ولغاية النهار الذي يسبق إعادة كل مبلغ ما لم يكن هناك اتفاق مخالف”.

في كتابه “العقود التجارية وعمليات المصارف” أوضح الدكتور إدوار عيد، أن “الوديعة النقدية تكسب المصرف ملكية النقود المودعة، وحق التصرف فيها كما يشاء باعتبار أنها من المثليات (الأموال التي يحل بعضها مكان بعض)، على أن يلتزم برد مبلغ مماثل، فيعتبر عندئذ مجرد مدين للعميل برصيد الحساب المقيدة فيه المبالغ المودعة”. كما “يلتزم المصرف بدفع فائدة للمودع عن المبالغ المودعة عملاً بالاتفاق أو العرف، ولا تسري هذه الفائدة حكماً في حساب الودائع كما في الحساب الجاري، بل يشترط وجود اتفاق أو عرف محلي كما يستدل من عبارة “عند الاقتضاء”.

يبقى السؤال حول موقف الاجتهاد اللبناني والمحاكم من مصير الأموال المجمدة في حسابات مصرفية، والفوائد الناتجة منها. فقد صدر قرار عن الغرفة الناظرة في القضايا التجارية في محكمة الدرجة الأولى بيروت بتاريخ 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2014، في معرض النظر في دعوى حول مصير الأموال خلال فترة تجميد حساب العميل من قبل هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان، مع بقاء الأموال في حيازة المصرف. فقد جاء في حيثيات القرار “لا يسع المصرف التذرع بأن تجميد الحساب منعه من التصرف بالمبالغ موضوع الحساب، وتوظيفها لا سيما وأن القرار الذي يصدر عن هيئة التحقيق الخاصة قد يلزمه بمصادرة المبالغ المشبوهة فوراً وتسليمها إلى الدولة، إذ إن المصرف اكتسب ملكية الأموال موضوع الحساب منذ إيداعها وقد ذابت هذه الأموال مع الأموال الأخرى الداخلة في ذمته المالية”.

وجاء في قرار المحكمة عن مفاعيل قرار التجميد على الودائع أن “قرار التجميد يمنع المصرف فقط من تسليم مبلغ مماثل لرصيد الحساب المجمد إلى صاحب هذا الحساب طيلة فترة التجميد، علماً بأن احتمال اضطراره إلى دفع الأموال موضوع الحساب المجمد فوراً في حال مصادرتها ليس من شأنه حرمانه من استعمال هذه الأموال”.

المصدر: اندبندنت عربية