أثار إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين، تساؤلات بشأن التبعات القانونية للقرار وإمكانية تنفيذه.
وذكر خبراء قانون دولي وحقوقيون لـ”الشرق”، أن 123 دولة مطالبة بتنفيذ قرارات المحكمة حال تواجد أي من المتهمين على أراضيها أو عبور مجالها الجوي، لكنهم قللوا من إمكانية حدوث ذلك لغياب قدرة المحكمة الجنائية الدولية على إلزام الدول باتخاذ تلك الخطوة، ونبهوا في الوقت نفسه إلى إمكانية عقد محاكمة غيابية إذ تعثر القبض عليهما.
وقال الدكتور بول مرقص، رئيس مؤسسة JUSTICIA الحقوقية في بيروت، والعميد في الجامعة الدولية للأعمال، ومقرها مدينة ستراسبورج الفرنسية، إن 123 دولة مصادقة على نظام روما الأساسي، المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، ستكون ملزمة بتطبيق أوامر الاعتقال، لكنه رجح عدم امتثال العديد من الدول لاعتبارات سياسية.
وأضاف مرقص لـ”الشرق”، أن عدم تنفيذ الدول الأعضاء في المحكمة لقرارات الاعتقال “لن يترتب عليه أية نتائج قانونية مباشرة”، واستدرك: “إلا أنها ستبدو بأنها لا تفي بالتزاماتها الدولية”.
ولفت إلى أن الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند “غير ملزمة بتطبيق قرار التوقيف”، لأنها “غير موقعة على نظام روما”، مشيراً إلى أنه من بين الدول الأعضاء في المحكمة نحو 33 دولة إفريقية، و19 دولة من الشرق الأوسط، و28 من أميركا اللاتينية، و25 دولة أوروبية.
من جانبه، قال البروفيسور غبريال صوما، أستاذ القانون الدولي وعضو المجلس الاستشاري للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، في تصريحات لـ”الشرق”، إن المحكمة الجنائية الدولية لن تكون قادرة على فعل أي شيء لإجبار دولة على توقيف نتنياهو أو جالانت، واستشهد بمذكرة التوقيف الصادرة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي لم تمنعه من السفر عدة مرات دون اعتقاله.
وأوضح صوما أن إسرائيل غير مطالبة بتسليم نتنياهو وجالانت لأنها “لا تعترف بالمحكمة الجنائية الدولية وبقراراتها”، مشدداً على أن “الحالة الوحيدة التي يمكن أن يتم فيها إلقاء القبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي أو وزير دفاعه هي السفر إلى دولة عضو في المحكمة على أن تكون ملتزمة بتنفيذ القرار”.
وأعلنت دول مثل بريطانيا وإيطاليا التزامها بتنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رفضت هذه الخطوة، كما توعد مايك والتز المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب بـ”رد قوي” ضد المحكمة في يناير.
ونظراً إلى كون الولايات المتحدة غير موقعة على نظام روما الأساسي، ولا تعترف بقرارات المحكمة، لفت صوما إلى أن “ترمب قد يلجأ عند تنصيبه في يناير المقبل إلى اتخاذ إجراءات ضد قضاة المحكمة والمدعي العام، على غرار وضع اليد على أموالهم المنقولة وغير المنقولة في البنوك الأميركية، ومنعهم من السفر إلى الولايات المتحدة”.
وفي تصريحات سابقة لـ”الشرق”، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، إن الولايات المتحدة “تشعر بقلق عميق إزاء اندفاع المدعي العام للمحكمة (كريم خان) في السعي إلى إصدار أوامر اعتقال، وإزاء الأخطاء الإجرائية التي أدت إلى القرار”، بحسب زعمه.
وقال الدكتور محمد الشيخلي، مدير المركز العربي للعدالة، ومقره بريطانيا، في تصريحات لـ”الشرق”، إن جميع الدول المنضوية تحت اتفاقية نظام روما الأساسي لعام 1998، ملزمة بتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية في كل مراحلها، ومنها ضرورة إلقاء القبض على الشخص المتهم الصادر بحقه قرار إلقاء القبض.
وأضاف: “جميع الدول تتحمل مسؤولية تنفيذ القرار، وهذا ينطبق حتى على الدول التي تمر من خلال أجوائها طائرة يستقلها نتنياهو أو وزير دفاعه السابق”.
وذكر أنه “في حالة إلقاء القبض عليهما أو أحدهما، فإن الدولة التي نفذت القرار ملزمة بترحيل المتهمين إلى مقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وبالتنسيق مع مكتب الادعاء العام في المحكمة”.
أما في حالة عدم حضور المتهمَين إلى المحكمة طوعاً أو في حالة استحالة تنفيذ قرار أمر القبض بحقهما، أوضح الشيخلي أنه “يجوز إجراء محاكمة غيابية، على أن تتوفر جميع ضمانات الدفاع للمتهم، ومنها تكليف محامي لتمثيله أمام المحكمة، وفي حالة عجزه عن توكيل ممثل قانوني عنه يجوز للمحكمة أن تنتدب محام للدفاع عنه، وذلك استناداً إلى أحكام المادة (61 / 1 و2 – أ و ب) من اتفاقية روما”.
وتؤكد الفقرة الأولى من المادة (61) لنظام روما الأساسي، أنه يجوز لدائرة ما قبل المحاكمة, بناء على طلب المدعي العام أو بمبادرة منها، عقد جلسة في غياب الشخص المنسوبة إليه التهم، من أجل اعتماد التهم التي يعتزم المدعي العام طلب المحاكمة على أساسها, ويكون ذلك في الحالات التالية :
أ ـ عندما يكون الشخص تنازل عن حقه في الحضور.
ب ـ عندما يكون الشخص فر أو لم يمكن العثور عليه، وتكون كل الخطوات المعقولة لضمان حضور الشخص أمام المحكمة ولإبلاغه بالتهم وبأن جلسة ستعقد لاعتماد تلك التهم.
وفي هذه الحالة يمثل الشخص بواسطة محام حيثما تقرر دائرة ما قبل المحاكمة أن ذلك في مصلحة العدالة.
وذكرت المحكمة، في بيان رسمي تزامناً مع إعلان القرار، الخميس، أنها وجدت أسباباً معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو، المولود في 21 أكتوبر 1949، وجالانت، المولود في 8 نوفمبر 1958، يتحملان المسؤولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللا إنسانية.
ورغم أن مذكرات الاعتقال تُصنّف عادة على أنها “سرية”، لحماية الشهود وضمان سير التحقيقات، إلا أن المحكمة، بحسب بيانها، قررت الكشف عن قرارها لأن “السلوك الذي تناولته المذكرة لا يزال متواصلاً”، في إشارة إلى استمرار الحرب في غزة وما ينطوي عليها من انتهاكات إنسانية بحق المدنيين، علاوة على أن “المحكمة ترى أنه من مصلحة الضحايا وأسرهم أن يتم إعلامهم بوجود مذكرات الاعتقال”.
وفي مايو الماضي، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان عن طلبه إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت، وزعماء حركة “حماس” يحيى السنوار، قبل أن تقتله إسرائيل في 16 أكتوبر الماضي، ومحمد الضيف (إسرائيل زعمت تصفيته لكن “حماس” تنفي)، وإسماعيل هنية (تم اغتياله في 31 يوليو الماضي).
وفي شأن ذي صلة، قال الدكتور إياد نصر الخبير في القانون الدولي ومستشار النزاعات المسلحة والحروب، إنه بموجب قرار المحكمة الجنائية الدولي، لن يتمكن نتنياهو وإسرائيل من مغادرة إسرائيل إلى أي دولة وقّعت وصادقت على نظام روما، وبالتالي ستكون حركتهما مقيدة للغاية.
أما الالتزام بقرار التوقيف من عدمه، فيعتمد، وفقاً لنصر، على “مدى احترام الدول أو اختراقها” لقوانين المحكمة، لا سيما أن القرار يُعتبر عملياً وإجرائياً تماماً بالقبض على المتهمَين وتسليمهما.
ورأى الخبير في القانون الدولي أن “هذه المحكمة تُمثل الأمل الوحيد المتبقي للإنسانية لتضع حداً لسلوك القادة السياسيين والعسكريين حتى لا يكرروا أفعال جالانت ونتنياهو والانتهاكات التي يمارسونا كل يوم بحق الفلسطينيين”.
منذ تأسيس نظام روما الأساسي عام 1998، الذي تشكلت على إثره المحكمة الجنائية الدولية، انضمت 123دولة إلى المعاهدة، بينما امتنعت حوالي 40 دولة عن التوقيع عليها، بما في ذلك والصين وإيران والهند وكوريا الشمالية وتركيا.
وفي عام 2015، قبلت المحكمة فلسطين كعضو فيها، رغم المعارضة القوية من الولايات المتحدة وشركائها.
كما وقعت عشرات الدول الأخرى على النظام الأساسي للمحكمة، لكن هيئاتها التشريعية لم تُصادق عليه أبداً. وتشمل هذه الدول مصر وإيران وإسرائيل وروسيا والسودان وسوريا، إضافة إلى الولايات المتحدة. وفي فبراير 2024، أصبحت أرمينيا أحدث دولة عضو في “الجنائية الدولية”.
وانسحبت دولتان من المحكمة الجنائية الدولية، هما بوروندي عام 2017، عقب قرار بالتحقيق في حملة الحكومة على احتجاجات المعارضة. والفلبين عام 2019 بعد أن إطلاق تحقيق في حرب الرئيس السابق رودريجو دوتيرتي على المخدرات.
وأعربت جنوب إفريقيا في أكثر من مناسبة عن إحباطها من “هيمنة المصالح الغربية على المحكمة الجنائية عندما يتعلق الأمر بكيفية نشر القانون الدولي”.
وسبق أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق عدد من الزعماء، على غرار الرئيس السوداني السابق عمر البشير والرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، لكن لم يتم الالتزام بقرار المحكمة.